مركز الارتباط بسماحة اية الله العظمى السيد السيستاني (دام ظله) في لندن واوربا والامريكيتين
بمناسبة قرب حلول شهر الخير والبركة وشهر الرحمة والمغفرة جاء حديثه التالي:
ان من المناسبات الدينية المهمة التي يجب ان يستعد لها الانسان قبل وقتها ويتهيأ نفسيا وروحيا وعقليا لها هي استقبال شهر رمضان المبارك، لان هذا الشهر الكريم هو سيد الشهور وهو فرصة ثمينة يجب الحرص على استثمارها بأحسن وجه وافضل صورة يقول (ص) (لو يعلم العبد ما في رمضان، لود أن يكون رمضان السنة) ولهذا فقد حث (ص) بقوله (أيها الناس قد اظلكم شهر عظيم شهر مبارك شهر فيه ليلة العمل فيها من العمل في الف شهر ... هو شهر اوله رحمة واوسطه مغفرة واخره عتق من النار.....).
ويقول الامام الرضا (ع) لابي الصّلت الهروي (يا أبا الصّلت، إنَّ شَعبان قَدْ مضى أكثره، وهذا آخر جمعة فيه، فتداركْ فيما بقي تقصيركَ فيما مضى مِنه، وعليك بالإقبال على ما يعينك، وأكثرْ من الدعاء والاستغفار وتلاوة القران، وتبْ إلى الله مِن ذنوبِكَ ليقبل شَهر رَمَضان إليكَ وأنتَ مخلص لله عزَّ وجلَّ، ولا تدعَنّ أمانة في عنقكَ إلاّ أدّيتها، ولا في قلبكَ حقداً على مؤمِن إلاّ نزعته، ولاذنباً أنتَ مرتكبه إلاّ أقلعت عَنهُ، واتق الله وتوكّل عَليهِ في سرِّ أمركَ وعلانيتكَ، ((وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ))، وأكثر من أن تقول في ما بقي مِن هذا الشّهر (اللّهُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَفَرْتَ لَنا فِيما مَضى مِنْ شَعْبانَ فَاغْفِرْ لَنا فِيما بَقِيَ مِنْهُ)، فانّ الله تباركَ وتعالى يعتق في هذا الشّهر رقاباً مِن النّار لحرمة شّهر رمضان).
ولكننا من المؤسف نرى بعض الناس يستقبلون شهر رمضان بالبعد المادي فيتزاحمون على مراكز التسوق لشراء الأطعمة والاشربة وغيرها استعدادا لهذا الشهر الفضيل دون ان يعطوا أهمية للبعد الروحي والمعنوي أي اهتمام ، فلهذا ينبغي لنا ان نقف وقفة تأمل وتدبر لاستقبال شهر رمضان المبارك بالأمور التالية التي ذكرها البعض:
1- محاسبة الذات: من الخطوات المهمة في التهيؤ والاستعداد لاستقبال شهر رمضان محاسبة الذات، وعمل كشف لأعمال المرء طوال العام المنصرم، والبناء على الأمور الإيجابية، والعمل على التخلص من الأمور السلبية. فقد قال النبي (ص) لأبي ذرّ الغفاريّ (يا أبا ذرٍّ، حاسِبْ نَفْسَكَ قَبلَ أنْ تُحاسَبَ، فإنَّهُ أهْوَنُ لِحِسابِكَ غَداً، وزِنْ نَفْسَكَ قَبلَ أنْ تُوزَنَ، وتَجَهَّزْ للعَرْضِ الأكْبَرِ يَومَ تُعْرَضُ لا يَخْفى على اللَّهِ خافِيَةٌ).
وقال الإمامُ عليٌّ (ع) (ما أحَقَّ الإنْسانَ أنْ تَكونَ لَهُ ساعةٌ لا يَشْغَلُهُ شاغِلٌ، يُحاسِبُ فيها نَفْسَهُ، فيَنْظُرُ فيما اكْتَسَبَ لَها وعلَيها في لَيلِها ونَهارِها!)، وقال الإمامُ الكاظمُ (ع) ( لَيس مِنّا مَن لَم يُحاسِبْ نَفْسَهُ في كُلِّ يَومٍ، فإنْ عَمِلَ خَيراً اسْتَزادَ اللَّهَ مِنهُ وحَمِدَ اللَّهَ علَيهِ، وإنْ عَمِلَ شَيئاً شَرّاً اسْتَغْفَرَ اللَّهَ وتابَ إلَيهِ).
وكما تقوم الشركات والمؤسسات التجارية بعمل جرد لحساباتها السنوية (لتقييم الربح والخسارة)، كذلك ينبغي للمؤمن أن يقوم بعمل كشف حساب لنفسه، لأن المحاسبة تفصح للإنسان عن نقاط قوته وضعفه، وما أنجزه طوال السنة من أعمال حسنة، وما قصّر في الاتيان به.
إن معرفة الإنسان بذاته، ومراجعة نفسه، مؤشر على الجدية في حياته، والاستعداد الجيد لاستقبال شهر رمضان، فقد جاء عن رسول اللَّه (ص) أنه قال: لَمّا حَضَرَ شَهرُ رَمَضانَ (سُبحانَ اللَّهِ! ماذا تَستَقبِلُونَ؟! وماذا يَستَقبِلُكُم؟! قالَها ثلاثَ مَرّاتٍ).
2- ترويض النفس: إن ترويض النفس وتدريبها على فعل الطاعات، وترك المحرمات من النقاط المهمة للتهيؤ لاستقبال شهر رمضان المبارك.
ومن صفات شهر رمضان ومميزاته أنه يحرق الذنوب، فقد قال رسولُ اللَّهِ (ص) (إنّما سُمِّيَ الرَّمَضانُ لأنّهُ يَرمَضُ (يحرق) الذُّنوبَ).
وعن مجاهدة النفس باجتناب المحرمات قال الإمامُ عليٌّ (ع) (الصِّيامُ اجتِنابُ المَحارِمِ كما يَمتَنِعُ الرجُلُ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ).
ولهذا ورد الاستحباب على الصيام في شهري رجب وشعبان، أو صيام بعض منهما للتهيؤ لاستقبال شهر رمضان، فلا يدخل رمضان إلا وقد عوّد نفسه على الصوم. فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال (من صام ثلاثة أيام من آخر شعبان ووصلها بشهر رمضان كتب الله له صوم شهرين متتابعين).
وكما يستعد الإنسان للتهيؤ للصلاة بفعل بعض المقدمات لها كارتداء الملابس المناسبة والوضوء، عليه أن يستعد للصوم في شهر رمضان بالصوم بعدد ما يستطيع قبله.
3- التوبة النصوح: كل إنسان معرض للخطأ، وارتكاب بعض المعاصي والذنوب، ولكن من رحمة الله تعالى بعباده أن فتح لهم باب التوبة، ليعودوا إلى الله عز وجل، كما في قوله تعالى ((وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)).
ومن الخطوات المهمة للتهيؤ والاستعداد لاستقبال شهر رمضان هو التوبة النصوح من كل الذنوب والمعاصي ليقبل الإنسان على شهر الله تعالى وهو مخلص النية، وصافي القلب، فقد روي عن الإمام الرضا (ع) قوله (وتبْ إلى الله مِن ذنوبِكَ ليقبل شَهر رَمَضان إليكَ وأنتَ مخلص لله عزَّ وجلَّ).
وكان الإمام عَلِيَ بنَ الحُسَينِ (ع) يَدعو بِهذَا الدُّعاءِ في كُلِّ يَومٍ مِن شَهرِ رَمَضانَ: (اللّهُمَّ إنَّ هذا شَهرُ رَمَضانَ، وهذا شَهرُ الصِّيامِ، وهذا شَهرُ الإِنابَةِ، وهذا شَهرُ التَّوبَةِ، وهذا شَهرُ المَغفِرَةِ وَالرَّحمَةِ، وهذا شَهرُ العِتقِ مِنَ النّارِ وَالفَوزِ بِالجَنَّةِ .... اللّهُمَّ ارزُقني فيهِ الجِدَّ وَالاجتِهادَ وَالقُوَّةَ وَالنَّشاطَ وَالإِنابَةَ وَالتَّوبَةَ).
وأما إذا جاء شهر رمضان والإنسان غارق في المعاصي والذنوب، فهذا يمنع من قبول الصوم، لأن الله إنما يتقبل من عباده المتقين، يقول الله تعالى ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)).
4- تصفية القلب: من النقاط المهمة في استقبال شهر رمضان أيضاً تصفية القلب من الضغائن والأحقاد ضد إخوانك المؤمنين، ونزع كل حقد وضغينة وحسد من قلبك.
يقول الإمامُ عليٌّ (ع) (طَهِّرُوا قُلوبَكُم مِن الحِقدِ؛ فإنّهُ داءٌ مُوبئٌ)، وعنه (ع) قال (قُلوبُ العِبادِ الطاهِرَةُ مَواضِعُ نَظَرِ اللَّهِ سبحانَهُ، فَمَن طَهَّرَ قَلبَهُ نَظَرَ إلَيهِ). وروي عن الإمام الرضا (ع) أنه قال (ولا في قلبكَ حقداً على مؤمِن إلاّ نزعته).
فالقلب الصافي والنقي والطاهر يقبل على العبادة والصوم بشوق ولهفة ورغبة شديدة، وأما من كان قلبه مملوءاً بالأحقاد والضغائن فلا فائدة ترتجى من عبادته وصيامه.
5- تطهير المال: من خطوات الاستعداد والتهيؤ لاستقبال شهر رمضان الكريم هو تطهير المال من الحرام، فقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال (العِبادَةُ مَع أكْلِ الحَرامِ كالبِناءِ على الرَّمْلِ- وقيلَ: على الماءِ) ، وعنه (ص) قال (وكلوا الحلال يتم لكم صومكم) . وقال الإمامُ عليٌّ (ع) (بِئْسَ الطَّعامُ الحَرامُ).
ومن صور تطهير المال إخراج الحقوق الشرعية الواجبة منه كالزكاة والخمس وأداء الديون ورد الأمانات إلى أهلها. يقول الإمام الرضا (ع) (ولا تدعَنّ أمانة في عنقكَ إلاّ أدّيتها).
فعلى الإنسان المؤمن أن يطهر أمواله بإخراج حقوق الله وحقوق الناس منه، فإذا طهّر أمواله فإنه يفطر على طعام من مال حلال ونقي وطاهر.
6- مراجعة الأفكار: ثمة نقطة مهمة للغاية وهي: إن على الإنسان قبل دخول شهر رمضان أن يراجع أفكاره وقناعاته التي يتبناها، فقد يكون الإنسان يتبنى أفكاراً خاطئة، أو أفكاراً سلبية، أو أفكاراً – ليست من الدين في شيء – وقد عفى عليها الزمن ولم تعد صالحة لهذا الزمان.
ومراجعة الأفكار خطوة مهمة للتهيؤ لاستقبال شهر رمضان المبارك، وللأسف الشديد قلّ أن نجد من يقوم بهذه المراجعة الفكرية، مع العلم أن الصوم يساعد على صفاء الذهن، وإنتاج الحكمة، فقد روي في الحديث القدسي: (الصَومُ يُورِثُ الحِكمَةَ، والحِكمَةُ تُورِثُ المَعرِفَةَ، والمَعرِفَةُ تُورِثُ اليَقينَ، فإذا استَيقَنَ العَبدُ لا يُبالِي كيفَ أصبَحَ، بِعُسرٍ أم بِيُسرٍ).
وبالإضافة إلى أن الصوم يورث العلم والمعرفة والحكمة، فإنه يورث (يقظة عقلية) للكثير من الغافلين عن ذكر اللَّه، وعن الالتزام بأوامره، والاجتناب عن نواهيه، فيكون شهر رمضان بذلك بداية فكرية جديدة في حياة الكثيرين.
وفي شهر رمضان المبارك حيث يكون الإنسان أكثر استعداداً لتغيير أفكاره الخاطئة، والتقرب إلى الله تعالى، والعودة إلى قيم الدين وأخلاقه؛ على كل واحد منا أن يراجع أفكاره بدقة فيتخلى عن الأفكار الخاطئة، ويبقى وينمي ما لديه من أفكار صحيحة حتى يستقبل شهر رمضان بقلب صافٍ، وعقل نظيف، ورأي حصيف.
وفقنا الله واياكم لصيام هذا الشهر وقيامه واحياء لياليه انه سميع مجيب.
اللهم برحمتك في الصالحين فأدخلنا، وفي عليين فارفعنا، وبكأس من معين من عين سلسبيل فاسقنا، ومن الحور العين برحمتك فزوجنا، ومن الولدان المخلدين، كأنهم لؤلؤ مكنون فخدمنا، ومن ثمار الجنة والحوم الطير فأطعمنا، ومن ثياب السندس والحرير والإستبرق فألبسنا، وليلة القدر وحج بيتك الحرام وقتلا في سبيلك فوفق لنا، وصالح الدعاء والمسألة فاستجب لنا.